أخر الاخبارمنوعات وفنون

لماذا منع حميد نانسي عجاج من أداء أغنية (عم عبد الرحيم)؟

لماذا منع حميد نانسي عجاج من أداء أغنية (عم عبد الرحيم)؟

في عالم الفن، هناك قرارات قد تبدو غريبة من الخارج، ولكنها عند التأمل العميق تحمل طبقات من المعنى والرمزية والصدق الإنساني. أحد هذه القرارات كان موقف الشاعر والمفكر الراحل حميد من المطربة نانسي عجاج عندما منعها من أداء أغنيته الشهيرة (عم عبد الرحيم)، والتي كتبها وغناها أيقونة الغناء السوداني مصطفى سيد أحمد.

المفارقة أن حميد، الذي طالما عرف عنه تسامحه الفني وانفتاحه الإبداعي، لم يُعرف عنه قط أنه رفض أن يردد الآخرون أعماله. بل على العكس، كثير من مطربي السودان، من مختلف المشارب والأساليب، نهلوا من كلماته، وغنوا أشعاره في المناسبات والحفلات والإذاعات، دون أن يواجهوا منه رفضًا أو اعتراضًا. كان كمن يُلقي كلماته في النهر لتسقي أرواح الناس دون أن ينتظر ثمناً، فكيف – إذن – نفسر موقفه الصارم من نانسي عجاج؟

يرى كثيرون أن منع حميد لنانسي لم يكن فقط اعتراضًا على الشكل أو حتى الأداء الفني، بل كان أعمق من ذلك. هو موقف وجداني، يتصل بطبيعة الأغنية ومحتواها العاطفي والوطني والطبقي. فأغنية (عم عبد الرحيم) ليست أغنية عادية، بل هي عمل أدبي وموسيقي متكامل، مشحون بالتجربة الاجتماعية والسياسية والوجدانية التي تمس حياة البسطاء والمهمشين.

هذه الأغنية كُتبت في سياق سياسي وشعبي ملتهب، أيام كانت الأغنية نفسها تمثل نوعًا من “المنشورات السرية”، تُتداول خفية وتُغنّى في الظلال، لأن فيها صوت من لا صوت له. لم يكن أداء مصطفى سيد أحمد للأغنية مجرد غناء، بل كان “تجسيداً للوجع“، وكان حميد يعلم أن مثل هذا التعبير لا يمكن استعارته أو “استلافه” بسهولة. كان يريد لمن يغنيها أن يكون قد عاش الوجع أو امتلك ناصية الإحساس العميق بالمضمون.

وصوت نانسي، بكل روعته وجماله، ربما افتقد في نظر حميد إلى هذا الجرح المعلن. رآها – كما يقال – غير قادرة على حمل ثقل الأغنية، لا لعجز فني، بل لغياب التكوين النفسي والاجتماعي الذي يُمكنها من الغوص في عمق المعاناة التي تتحدث عنها الأغنية.

وبرغم ما سبق، فقد يكون المنع أيضًا قد انطلق من مبدأ بسيط ولكنه عميق في قيمته: الاستئذان. حميد، برغم عفويته وبساطته، كان له حس أخلاقي رفيع في التعامل مع الآخرين. وقد شعر، كما ورد، بأن نانسي لم تطلب الإذن منه قبل أداء الأغنية. وهذا التجاوز في نظره لم يكن بسيطًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بعمل يحمله كل هذا الإرث العاطفي والرمزي.

الاستئذان هنا لم يكن مجرد إجراء شكلي، بل كان بوابة احترام بين الفنان وصاحب العمل. وكأن حميد أراد أن يقول: “قبل أن تغني وجعي، اسألني عنه أولاً”.

ربما يراها البعض قسوة غير مبررة، وربما يُنظر إليها كتزمت لا يليق بفنان منفتح كحميد، لكن في الحقيقة، ما فعله حميد كان وفاءً للأغنية وللسياق الذي وُلدت فيه. كان مخلصًا لمعانيه، لدرجة أنه لم يسمح لها بأن تتحول إلى “عرض فني” يؤديه من يشاء دون أن يدرك ثقل المعاناة فيها.
المنع هنا ليس ضد نانسي بشخصها، بل ضد التبسيط أو التسطيح لأغنية كتبت بلغة الدم والعرق والحب المجروح.

يبقى موقف حميد من نانسي عجاج دليلاً على أن الفن الحقيقي لا يُقاس بالصوت الجميل وحده، بل بالمعايشة والصدق والقدرة على التعبير عن روح النص. وموقفه هذا قد يُفهم في سياقه بأنه صرخة صامتة ضد الاستهلاك السريع للمشاعر، وضد تحويل الأعمال الثورية إلى مجرد فقرات غنائية.

أغنية (عم عبد الرحيم)، مثلها مثل كثير من تراث حميد ومصطفى، تحتاج لمن يتنفسها قبل أن يغنيها، ومن يعانيها قبل أن يُطرب بها. وذاك ما لم يجده حميد في صوت نانسي، برغم روعته.
فهل كان مخطئًا؟ ربما.
لكنه بالتأكيد… كان صادقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى